فصل: سورة الأنبياء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (134- 135):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى} [134- 135].
{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ} أي: بالعذاب الدنيويّ: {وَنَخْزَى} أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: {قُلْ} أي: لأولئك الكفرة المتمردين: {كُلٌّ} أي: منا ومنكم: {مُتَرَبِّصٌ} أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: {فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ} أي: عن قرب: {مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أي: المستقيم: {وَمَنِ اهْتَدَى} أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم.
وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.

.سورة الأنبياء:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

القول في تأويل قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} [1].
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي: دنا لأهل مكة ما وعدوا به في الكتاب من الحساب الأخرويّ وهو عذابهم: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} أي: عما يراد بهم: {مُعْرِضُونَ} أي: مكذّبون به. وإنما كان مقترباً لأن كل آتٍ وإن طالت أوقات استقباله وترقبه، قريب. وقد قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج: 6- 7]، وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، ولا يخفى ما في عموم الناس من الترهيب البليغ. وإن حق الناس أن ينتبهوا لدنو الساعة، ليتلافوا تفريطهم بالتوبة والندم. كما أن في تسمية يوم القيامة، بيوم الحساب زيادة إيقاظ، لأن الحساب هو الكاشف عن حال المرء، ففي العنوان ما يرهب منه، ولو قيل بأن الحساب أعم من الدنيويّ والأخروي لم يبعد، ويكون فيه إشارة إلى قرب محاسبة مشركي مكة بالانتصاف منهم والانتصار عليهم، كما أشير أليه في آية: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ} [المائدة: 52]، ووعد به النبيّ وصحبه في آيات كثيرة. إلا أن شهرة الحساب فيما بعد البعث الأخرويّ، حمل المفسرين على قصر الآية عليه. والله أعلم. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (2):

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [2].
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} تقريع لهم على مكافحة الحكمة بنقيضها. وتسجيل عليهم بالجهل الفاضح. فإن من حق ما يذكر أكمل تذكير، وينبه على الغفلة أتم تنبيه، أن تخشع له القلوب وتستحذي له الأنفس.
قال الزمخشري: بعد أن وصفهم بالغفلة مع الإعراض، قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ، فأن الله يجدد لهم الذكر وقتاً فوقتاً. ويحدث لهم الآية بعد الآية، والسورة بعد السورة، ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة، لعلهم يتعظون. فما يزيدهم استماع الآي والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر، التي هي أحق الحق وأجد الجد، إلا لعباً وتلهياً واستسخاراً. والذكر هو الطائفة النازلة من القرآن. انتهى.
تنبيه:
استدل بهذه الآية من ذهب إلى حدوث كلامه تعالى المسموع. وهم المعتزلة والكرامية والأشعرية. فأما المعتزلة فقالوا إنما كان القرآن حادثاً لكونه مؤلفاً من أصوات وحروف. فهو قائم بغيره وقالوا: معنى كونه متكلماً، أنه موجد لتلك الحروف والأصوات في الجسم. كاللوح المحفوظ أو كجبريل أو النبيّ عليه الصلاة السلام، أو غيرهم كشجرة موسى.
وأما الكرامية، فلما رأوا ما التزمه المعتزلة مخالفاً للعرف واللغة، ذهبوا إلى أن كلامه صفة له مؤلفة من الحروف والأصوات الحادثة القائمة بذاته تعالى. فذهبوا إلى حدوث الدالّ والمدلول. وجوزوا كونه تعالى محلاً للحوادث.
والأشعرية قالوا: إن الكلام المتلوّ دال على الصفة القديمة النفسية، التي هي الكلام عندهم حقيقة.
قالوا: فما نزل على الأنبياء من الحروف والأصوات، وسمعوها وبلّغوها إلى أممهم، هو محدث موصوف بالتغير والتكثر والنزول. لا مدلولها التي هي تلك الصفة القديمة. والمسألة شهيرٌ ما للعلماء فيها. والقصد أن الآية المذكورة رآها من ذكر، حجة فيما ذهب إليها.
وقد عدّ الإمام ابن تيمية، عليه الرحمة والرضوان، هذا الاحتجاج من الأغلاط، وعبارته في كتابه مطابقة المنقول للمعقول: احتج من يقول بأن القرآن أو عبارة القرآن مخلوقة، بهذه الآية، مع أن دلالة الآية على نقيض قولهم، أقوى منها على قولهم. فإنها تدل على أن بعض الذكر محدث، وبعضه ليس بمحدث، وهو ضد قولهم. والحدوث في لغة العرب العام ليس هو الحدوث في اصطلاح أهل الكلام. فإن العرب يسمون ما تجدد حادثاً، وما تقدم على غيره قديماً. وإن كان بعد أن لم يكن كقوله تعالى: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يّس: 39]، وقوله تعالى عن إخوة يوسف: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] وقوله تعالى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11]، وقوله تعالى عن إبراهيم: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ} [الشعراء: 75- 76]، انتهى.
وقال العارف ابن عربيّ في الباب التاسع والستين والثلاثمائة من فتوحاته في هذه الآية: المراد أنه محدث الإتيان، لا محدث العين. فحدث علمه عندهم حين سمعوه. وهذا كما تقول: حدث اليوم عندنا ضيف، ومعلوم أنه كان موجوداً قبل أن يأتي. وكذلك القرآن جاء في مواد حادثة تعلق السمع بها. فلم يتعلق الفهم بما دلت عليه الكلمات. فله الحدوث من وجه والقدم من وجه.
فإن قلت: فإن الكلام لله والترجمة للمتكلم. فالجواب نعم. وهو كذلك بدليل قوله تعالى مقسماً إنَّهُ يعني: القرآن: {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]. فأضاف الكلام إلى الواسطة والمترجم، كما أضافه تعالى إلى نفسه بقوله: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، فإذا تلي علينا القرآن فقد سمعنا كلام الله تعالى. وموسى لما كلمه ربه سمع كلام الله. ولكن بين السماعين بعد المشرقين. فإن الذي يدركه من يسمع كلام الله بلا واسطة، لا يساويه من يسمعه بالوسائط. انتهى.
وبالحكمة فالمذهب المأثور عن أهل السنة والجماعة أئمة الحديث والسلف، كما قاله ابن تيمية في منهاج السنة: أن الله تعالى لم ينزل متكلماً إذا شاء بكلام يقوم به. وهو متكلم بصوت يسمع. وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يجعل نفس الصوت المعين قديماً.
وبعبارة أخرى: أنه تعالى لم يزل متصفاً بالكلام. يقول بمشيئته وقدرته شيئاً فشياً. فكلامه حادث الآحاد، قديم النوع.
ثم قال رحمه الله: فإن قيل لنا: فقد قلتم بقيام الحوادث بالرب. قلنا: نعم. وهذا قولنا الذي دل عليه الشرع والعقل ومن لم يقل إن البارئ يتكلم ويريد ويحب ويبغض ويرضى ويأتي ويجيء- فقد ناقض كتاب الله. ومن قال: إنه لم يزل ينادي موسى في الأزل فقد خالف كلام الله مع مكابرة العقل. لأن الله تعالى يقول: {فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ} [النمل: 8]، وقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82]، فأتى بالحروف الدالة على الاستقبال.
ثم قال رحمه الله: قالوا- يعني أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهما- وبالجملة فكل ما يحتاج به المعتزلة والشيعة مما يدل على أن كلامه متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء ويتكلم شيئاً بعد شيء، فنحن نقول به. وما يقول به من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له، والصفة لا تقوم إلا بالموصوف، فنحن نقول به. وقد أخذنا بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، وعدلنا عما يردّه الشرع والعقل من قول كل منهما. فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم منه أن تكون الحوادث قامت به، قلنا: ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل. وهو قول لازم لجميع الطوائف: ومن أنكره فلم يعرف لوازمه وملزوماته. ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائض، والله منزه عن ذلك. ولكن يقوم به ما شاءه ويقدر عليه من كلامه وأفعاله ونحو ذلك، مما دل عليه الكتاب والسنة.
ثم قال: والقول بدوام كونه متكلماً ودوام كونه فاعلاً بمشيئته، منقول عن السلف وأئمة المسلمين من أهل البيت وغيرهم. كابن المبارك وأحمد بن حنبل والبخاري وعثمان بن سعيد الدارميّ وغيرهم.
ثم قال: فنحن قلنا بما يوافق العقل والنقل من كمال قدرته ومشيئته: وإنه قادر على الفعل بنفسه كيف شاء. وقلنا إنه لم يزل موصوفاً بصفات الكمال متكلماً ذاتاً. فلا نقول إن كلامه مخلوق منفصل عنه، فإن حقيقة هذا القول أنه لا يتكلم. ولا نقول إنه شيء واحد، أمر ونهي وخبر. فإن هذا مكابرة للعقل. ولا نقول أنه أصوات منقطعة متضادة أزلية، فإن الأصوات لا تبقى زمانين. وأيضا فلو قلنا بهذا القول والذي قبله، لزم أن يكون تكليم الله للملائكة ولموسى ولخلقه يوم القيامة، ليس إلا مجرد خلق الإدراك لهم، لمَاَ كان أزلياً لم ومعلوم أن النصوص دلت على ضد ذلك. ولا نقول إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما. فإنه وصف له بالكمال بعد النقص وإن صار محلاً للحوادث التي كمل بها بعد نقصه. ثم حدوث ذلك الكمال لابد له من سبب. والقول في الثاني كالقول في الأول. ففيه تجدد جلاله ودوام أفعاله. انتهى ملخصاً.
ثم بين تعالى ما كانوا يتناجون به من ضلالهم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآية رقم (3):

القول في تأويل قوله تعالى: {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} [3].
{لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي: أسروا هذا الحديث ليصدوا عن سبيل الله. والذين بدل من واو أسروا أو مبتدأ خبره أسروا أو منصوب على الذم: {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ} أي: تنقادون له وتتبعونه. وقوله: {وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} حال مؤكدة للإنكار والاستبعاد. قال الزمخشري رحمه الله: اعتقدوا أن رسول الله لا يكون إلا ملكاً، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر، ومعجزته سحره. فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر.
قال أبو السعود: وزلّ عنهم أن إرسال البشر إلى عامة البشر، هو الذي تقتضيه الحكمة التشريعية. وقوله تعالى:

.تفسير الآية رقم (4):

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [4].
{قَالَ رَبِّي} حكاية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم. وقرئ: قلْ على الأمر له صلوات الله عليه: {يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ} أي: لما أسروه: {الْعَلِيمُ} أي: به فيجازيهم. ثم بين خوضهم في فنون الاضطراب وعدم اقتصارهم على ما تقدم من دعوى السحر، بقوله:

.تفسير الآية رقم (5):

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [5].
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} أي: أخلاط يراها في النوم: {بَلِ افْتَرَاهُ} أي: اختلقه: {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي: ما أتى به شعر يخيل للناس معاني لا حقيقة لها. وهكذا شأن المبطل المحجوج، لا يزال يتردد بين باطل وأبطل، ويتذبذب بين فاسد وأفسد: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} أي: مثل الآية التي أرسل بها الأولون. أي: حتى نؤمن له. ثم أشار تعالى إلى كذبهم في دعوى الإيمان بمجيء الآية، كما يشير إلى طلبهم لها، بقوله سبحانه وتعالى: